فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (101):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [101].
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أي: بعضاً منه عظيماً، وهو ملك مصر: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: تعبير الرؤيا: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مبدعهما وخالقهما: {أَنتَ وَلِيِّي} أي: مالك أموري: {فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي: من النبيين والمرسلين. دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك، فسأل ربه عز وجل، كما أتم عليه نعمته في الدنيا، أن يحفظها عليه باقي عمره، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام، وألحقه بالصالحين. فليس فيه تمنٍّ للموت، وطلب التوفي منجزاً كما قيل.
روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسناً فيزداد، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي». وفي رواية: «وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي».
تنبيهان:
الأول: في فقه هذه الآيات: قال بعض اليمانين: يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه، على حسن التعظيم باللقاء، وكذا يأتي مثله في التشييع، ومنه ما روي في تشييع الضيف: ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته- كما مر- أن من نسب رجلاً إلى خالته فقال: يا ابن فلانة! لم يكن قاذفاً لها. ويستدل من رفعهما على العرش- وهو السرير الرفيع- جواز اتخاذه، ورفع الغير، تعظيماً للمرفوع، ويستدل من قوله: {وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} على أن الانتقال منه نعمة، وذلك لما يحلق أهل البادية من الجفاء، والبعد عن موارد العلوم، وعن رفاهة المدنية، ولطف المعاشرة، والكمالات الإنسانية، وروي لجرير:
أرض الحراثة لو أتاها جرول ** أعني الحطيئة لاغتدى حراثا

ما جئتها من أي وجه جئتها ** إلا حسبت بيوتها أجداثاً

وفي الحديث: «من بدا جفا» أي: من حل البادية. وفي آخر: «إن الجفا والقسوة في الفدادين». ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن. بزيادة.
الثاني: قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر. ومجمله: أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان، ثم أدخل أباه على فرعون، فأكرمه وكلمه حصة. وسأله عن عمره، فأجابه: مائة وثلاثون سنة، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر، وهي أرض رعمسيس، أي: عين شمس، وملكها إياهم، ودعا له يعقوب ثم انصرف. ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته، فمثلهم بين يدي فرعون، فقال لهم: ما حرفتكم فأجابوه- كما أوصاهم يوسف-: نحن وآباؤنا رعاة غنم! فقال فرعون ليوسف: إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق، فأقمهم وكلاء على ماشيتي. وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاماً على حسبهم. وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها ونموا وكثروا جدًّا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعاً وأربعين سنة. ولما دنا أجله قال ليوسف: لا تدفني بمصر إذا مت، بل احملني منها إلى مدفن آبائي، فأجابه لذلك. ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه، فانتعش أبوه بمقدمه، ورأى ولديه، فقال: من هذان؟ فقال: ابناي رزقنيهما الله ها هنا. فقال: أدنهما مني، فأدناهما، فقبلهما، ودعا لهما، وقال له: لم أكن أظن أني أرى وجهك، والآن أراني الله نسلك أيضاً. ثم أعلم يوسف بدنو أجله، وبشره بأن الله سيكون معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، ثم دعا بقية بنيه، ودعا لهم بالبركة، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل، فإن فيها دفن إبراهيم، وسارة امرأته، وإسحاق ورفقة زوجته، وليأة امرأة يعقوب. ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه، فوقع يوسف على وجه أبيه، وبكى وقبله. ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه. ولما انقضت أيام التعزية به، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه، عملاً بوصيته، فأذن له وسار من مصر، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته، ووجهاء مصر، وأتباع فرعون في موكب عظيم، إلى أن وصلوا أرض كنعان، ودفنوه في المغارة- كما أوصى- ثم عاد بمن معه إلى مصر، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان، إلى أن قرب أجله، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم. ثم توفي يوسف، وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه، وجعلوه في تابوت بمصر.
هذا ما قصه قدماء المؤرخين، والله أعلم بالحقائق. وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم؛ لأن القرآن لم يبْنَ على قانون التاريخ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار، وإنما هي الآيات والعبر، تجلت في سياق الوقائع، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: من الآية 111]. وقوله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: من الآية 120]. ومضى في المقدمة بسط هذا البحث، فراجعه. وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئاً من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف، فانتظر.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (102):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [102].
{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، البعيد درجة كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزاً. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: هذا من أخبار الغيوب السابقة، نوحيه إليك، ونعلمك به، لما فيه من العبرة والاتعاظ.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} كالدليل على كونه نبأ غيبياً ووحياً سماوياً. أي: لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي؛ لأنك لم تحضر إخوة يوسف، حين أجمعوا أمرهم على إلقاء أخيهم في البئر، وهم يمكرون به، إذ حثوه على الخروج معهم، يبغون له الغوائل، وبأبيهم في استئذانه ليرسله معهم، أي: فلم تشاهدهم حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها.
قال أبو السعود: وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط، بل سائر المشاهد أيضاً. وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة، وأخفى أحوالها، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن المراد إلزام المكذبين. والمعنى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك؛ إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك، إذ عدم سماعك ذلك من الغير، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضاً، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو، فتبلغه إليهم. وفيه تهكم بالكفار، فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم. وفيه أيضاً إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع. وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه. يعني: أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي. ومثله قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عِمْرَان: من الآية 44]. وقوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: من الآية 44]. انتهى.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (103):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103].
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} يريد به العموم، أو أهل مكة: {وَلَوْ حَرَصْتَ} أي: جهدت كل الجهد على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك: {بِمُؤْمِنِينَ} أي: بالكتب والرسل؛ لميلهم إلى الكفر، وسبيل الشر. يعني: قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه، وقامت الحجة، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8- 67- 103- 121- 139- 158- 174- 190].
قال الرازي: ما معناه: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، أن كفار قريش، وجماعة من اليهود، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتاً، فكان يُظن أنهم يؤمنون إذا تلي عليهم، فلما نزلت وأصروا على كفرهم، قيل له: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} الخ. وكأنه إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: من الآية 56].

.تفسير الآية رقم (104):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [104].
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي: على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد: {مِنْ أَجْرٍ} أي: أجرة: {إِنْ هُوَ} أي: ما هو، يعني القرآن: {إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي: عظة لهم، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة. يعني: أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة، والمراشد القويمة، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالاً، ولا جعلاً. فلو كانوا عقلاء لقبلوا، ولم يتمردوا.
قال بعض اليمانين: في الآية دليل على أن من تصدر للإرشاد، من تعليم ووعظ، فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه.

.تفسير الآية رقم (105):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [105].
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي: وكم من آية على وحدانية الخالق، وقدرته الباهرة، ونعوته الجليلة، في السماوات: من كواكبها وأفلاكها، وفي الأرض: من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات، وثمار مختلفات، وأحياء وأموات، يشاهدونها ولا يعتبرون بها.
قال الرازي: يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها، واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة، لابد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية، وإما الأجرام العنصرية. أما الأجرام الفلكية فهي قسمان: أفلاك وكواكب. أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع. وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته. وقد يستدل بأحوال حركاتها، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم، فلابد من محرك قادر، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات. وأما الأجرام الكوكبية: فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها وأحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال، والظلمات والنور.
وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر، وإما من المواليد وهي أقسام:
أحدها: الآثار العلوية، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح.
وثانيها: المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها.
ثالثها: النبات وخاصية الخشب والورق والتمر، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص، وخاصية مخصوصة.
ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها.
وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنفعة الحاصلة فيها.
فهذه مجامع الدلائل.
ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين، وحكايات الأقدمين، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد، وقهروا العباد، ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب.
ولما كان العقل البشري لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل، ذكر في الكتاب العزيز مجملاً. انتهى.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (106):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [106].
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} أي: الناس، أو أهل مكة: {بِاللّهِ} أي: في إقرارهم بوجوده وخالقيته: {إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} أي: بعبادتهم لغيره، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً، وبقولهم باتخاذه تعالى ولداً: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 43].
تنبيه:
كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر، وهو أن يعبد مع الله غيره. فإنها تشير إلى ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي، الذي لا يشعر صاحبه به غالباً. ومنه قول الحسن في هذه الآية: ذاك المنافق، يعمل إذا عمل رئاء الناس، وهو مشرك بعمله. يعني: الشرك في العبادة. فصاحبه، وإن اعتقد وحدانيته تعالى، ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه، أو طلب الدنيا، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حبان في صحيحه: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل». فالرياء كله شرك، وهو محبط للعبادة، مبطل ثواب العمل، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجباً. فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: من الآية 5]، فمن لم يخلص لله في عبادته؛ لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه.
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه».
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لَبِيد، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء».
ومن الشرك نوع غير مغفور، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: من الآية 165] الآية. وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98]، ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله، والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب، وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم، بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام، من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأي حكم أشد جوراً منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه. أفاده الشمس ابن القيم في الجواب الكافي.
قال الحافظ ابن كثير: وثم شرك خفي لا يشعر به غالباً فاعله، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض، فرأى في عضده سيراً فقطعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}.
وفي الحديث: «من حلف بغير الله فقد أشرك» رواه الترمذي عن ابن عمر وحسنه. وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه؟ قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطاً، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط رقي لي فيه! فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تفرق، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟! فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كفَّ عنها، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أذهب الباس، رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً».
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة فقد أشرك».
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن عَمْرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك».
وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان، مع وجود مسمى الشرك، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به، بما يتخذه من الشفعاء، وما يعبده من الأصنام. وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين، كالرياء مثلاً، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به، بذلك الشرك الخفي. وعلى هذا، فالشرك يجامع الإيمان، فإن الموصوف بهما مما تقدم، مؤمن فيما آمن به، ومشرك فيما أشرك به. والتسمية في الشريعة لله عز وجل ولرسوله، فلهما أن يوقعا أي: اسم شاءا على أي: مسمى شاءا. فكما أن الإيمان في اللغة التصديق، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات، واجتناب المعاصي، إذا قُصد بكل ذلك، من عمل أو ترك، وجه الله تعالى، كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقاً، إلى الشرك في عبادته تعالى، وفي خصائص ربوبيته.
قال ابن القيم:
حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق، والتشبه للمخلوق به، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فضلاً عن غيره مشبهاً بمن له الأمر كله، جل وعلا. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل، مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده. ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون لغيره. فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير، بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين، لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية. وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع. وقبحُه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى. إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به، فمن تعاظم وتكبر، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع، والرجاء، وتعليق القلب به، خوفاً، ورجاء، والتجاء، واستعانة، فقد تشبه به، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته». وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام، ونحوه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله».
فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم، الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، يحكم عليهم كلهم، ويقضي عليهم، لا غيره.
وتتمة هذا البحث في الجواب الكافي لابن القيم، فانظره.
وقوله تعالى: